لدمشق قصةٌ يحكيها كلُّ شارعٍ فيها وكلُّ حي، أسير في أزقتها وأحيائها لينتهي بيَ المطاف دائماً عند نصب "ساحة المرجة"، هناك أجد كل ما يلزمني، ابتداءً من الأطباء ومكاتب المحاماة ومكاتب تعقيب المعاملات، هناك باعة الحلويات الدمشقية،
وسوق السمك والخضروات وسلال القش وسوق الطيور وباعة العطور المركّبة والأقراص المدمجة والكاسيتات ومحال بيع الحقائب والمحال الشعبية، وتسمع الضوضاء الموسيقيةَ فكلُّ شخصٍ ينادي على بضاعته بأسلوبه، وترى فيها أشخاصاً يرتاحون على الكراسي المجاورة للنصب القائم هناك، وأشخاصاً يجلسون في المقهى المجاور للساحة يحتسون الشاي "الخمير" ويأخذون نرجيلتهم.
ومن بين هؤلاء كان السيد "مروان التكريتي" وهو رجلٌ يقارب الستين من العمر، تحدث إلينا بصوتٍ جهورٍ ظهر عليه بعض الوهن بقوله: «شهدت هذه الساحة أحداثاً مفصلية في تاريخ البلد كإعدام الوطنيين الأحرار في (6 أيار 1916) على يد "جمال باشا السفّاح"، فسُمّيت لذلك "بساحة الشهداء"، كما كان الفرنسيون يعدمون الفلاحين المتمردين، ويلقون جثثهم وسط الساحة لإثارة رعب الأهالي، "ساحة المرجة" التي تأسست في العهد "المملوكي" وتمّ تحديثها في العهد "العثماني" ثم "الفرنسي" انطلقت منها أول رحلة "للترامواي" بين أحياء "دمشق" عام 1904، كأول وسيلة نقل حديثة، قبل أن تُلغى عام 1961م. قبل الترام كانت وساطة النقل لأهالي "دمشق" هي عربات تجرها الخيول أو يقومون باستئجار الحمير قبل أن تنتشر العجلة الهوائية.
ويخترق ساحة المرجة نهر بردى الذي كان يفيض على جانبيه لغزارة مياهه، لكنه جفّ اليوم، ولم يبق من ذكراه سوى قصائد شعرية لشعراء عشقوا "دمشق" وعرفوها وبعض الأغاني الوطنية».
وفي حديثٍ مع السيد "أحمد العش" موظف في شركة كهرباء "الهامة" كان متواجداً في تلك المنطقة لبعض الشؤون الإدارية قال لنا: «جولةٌ بسيطةٌ في محيط هذه الساحة ستقنعك بأن "دمشق" كلها مختزلة في هذا المحيط، ومن مقهى "علي باشا" سيطالعك النصب التذكاري وسط الساحة تماماً والذي أقامه الوالي العثماني "حسين ناظم باشا" عام 1907 تخليداً لذكرى افتتاح الاتصالات البرقية بين "اسطنبول" و"المدينة المنوّرة" عبر "دمشق"، وصمّمه المعماري الإيطالي "ريموندو دارونكو".
يتكوّن النصب من قاعدة بازلتية وعمود من البرونز ينتهي بمجسم مصغّر لجامع "يلدز" في اسطنبول والذي يلقب أيضاً "بالجامع الأزرق" أو "جامع أحمد باشا" نسبةً للوالي الذي أمر ببنائه وهو عمود "تراجاني" منحوت من "البرونز" تلتف حوله "أسلاك البرق" كرمزٍ لمناسبة رفعه، وفي الأعلى ثمة قاعدة مربعة الشكل تحوي أربعة صنابير لمياه الشرب وفي قمة العمود قاعدة مربعة أخرى تحمل نموذجاً مصغراً لمسجد "سراي يلدز" في "اسطنبول" كما ذكرت سابقاً».
ويتابع: «تزامن رفع النصب "عمود المرجة" مع إطلاق الخط الحديدي "الحجاز" من محطة "الحجاز" المجاورة لمنطقة "ساحة المرجة"، وبُنيت أعواد المشانق لشهداء 6 أيار تحت هذا النصب، ثم أصبحت مكاناً دائماً لإعدام المجرمين، فكان أهالي الأحياء المحيطة بالساحة يتجمهرون فجراً لحضور شنق أحد المجرمين، وقد غدا هذا النصب النادر خلال القرن الماضي واحداً من رموز "دمشق" الهامة».
السيد "إبراهيم النحلاوي" ابن المنطقة وصاحب أحد المحال فيها فيقول: «في هذه الساحة التاريخية كان يتم إعدام المحكومين في أزمنةٍ مختلفةٍ، وفيها أيضاً جامعٌ لا يصلى فيه هو جامع "الأمير يلبغا اليحياوي" نائب السلطنة المملوكي فكان ثاني أكبر مسجد في "دمشق"، قديماً كانت هذه الساحة منتزهاً جميلاً تغطيه الأعشاب ويزرع على جوانبها البطيخ، وفي زمن الحصار كانت مخيماً للعسكر ثم أقيم العمود وسطها تذكاراً لمد أول خط تلغراف ربط "اسطنبول بالمدينة المنورة ومكة المكرمة".
ولا ننسى أن "ساحة المرجة" متواجدةٌ في مركز المدينة منذ عام 1911م أي قبل "الحرب العالمية الأولى" وقد انتصب النصب التذكاري في المنتصف، وفي عام 1916 أصبحت المرجة معلماً تاريخياً عندما أعدم الأتراك العثمانيون 21 من المنادين بالاستقلال هناك لعصيانهم "الإمبراطورية العثمانية".
وأضاف: «إنها ساحةٌ مشهورةٌ في وسط "دمشق" التي تختزن في جنباتها الكثير من الصور والذكريات والأحداث التي ارتبطت بتاريخ المدينة، وكان لها عظيم الأثر في التحولات التي شهدتها سورية عموماً خلال العقود الأخيرة، وهي مكان تآلفت فيه الأضداد وتجاورت المتناقضات بدءاً من أنماط عمارة أبنيتها المتناوبة بين القديم والحديث إلى تنوع شرائح الناس الذين تمتلئ بهم ليل نهار، من الفقير إلى الثري ومن المتشرد إلى الموسر، من الباعة البسطاء إلى أصحاب المحلات الفخمة، أضف إلى ذلك بأن "ساحة المرجة" تمتاز بتاريخها الحافل وتناقضاتها العجيبة وموقعها الاستراتيجي المميز وسط "دمشق" مع الأسواق المتفرعة عنها،
وهذا ما جعلها مكاناً يجمع الخيال مع الواقع ويقدم قراءةً مثاليةً لمفردات الحياة الدمشقية، لتأتي الساحة متفردة بكل شيءٍ، وهي متميزةٌ عن كل ساحات وميادين "دمشق" والمدن السورية الأخرى، وقد ذكر ذلك الباحث "قتيبة الشهابي" في كتابه "دمشق: تاريخٌ وصورٌ"».
ويضيف السيد "النحلاوي" عن تاريخ المنطقة قائلاً: «في بدايات القرن التاسع عشر كان "نهر بردى" يتفرع في ساحة المرجة إلى فرعين يحتضنان جزيرة صغيرة غنية بالأشجار كانت تسمى "بالجزيرة" أو "بين النهرين" ثم عرفت باسم "المرجة"، ولطالما شهدت طوفان بردى المتكرر إثر الأمطار الغزيرة الذي كان يعرف "بالفيضان" أو "الزورة" فتغمر الساحة والأسواق المجاورة.
لم يكن هذا فقط ما شهدته هذه المنطقة السحرية، بل كانت شاهداً على أحداث سياسية مهمة فبعد سنوات من تأسيسها قام "جمال باشا السفاح" بإعدام رجالات سورية ولبنان فيها في 6 أيار 1916 فصارت تعرف
"بساحة الشهداء"، كما شهدت إعدام أبطال الثورة السورية الكبرى الذين ألقت فرنسا بجثثهم في تلك الساحة لدب الذعر والخوف في نفوس الناس.
وفي عام 1907 شهدت المنطقة انطلاق "البرق" كما شهدت أيضاً دخول الحافلات الكهربائية (الترامواي) إلى "دمشق" ولأول مرة في عهد الوالي "ناظم باشا" من قبل شركة "التنوير والجر المساهمة المغفلة البلجيكية" والتي كان مقرها في "زقاق الصخر"، وفي نفس العام عرفت "دمشق" الكهرباء وقد استمرت حافلات الترامواي بالعمل حتى عام 1962.
أما عام 1866 تمت تغطية "نهر بردى" في عصر الوالي "محمد راشد باشا" بتلك الساحة فغدت المنطقة ميداناً فسيحاً مما سهل حركة القوافل والنقل وصار اسمها "الميدان الكبير"، وقام "حسين ناظم باشا" ببناء دار البلدية عام 1895 فتشكلت هناك نواة مركز مدينة "دمشق" إذ أقيم بناءان آخران قبل "دار البلدية" أمام جامع "يلبغا المملوكي" هما "دار البرق" والبريد و"دار العدلية" و"بناء السجن" الذي يسمى الآن "بالقصر العدلي"، لذلك يعتبر "ناظم باشا" أشهر الولاة العثمانيين على "دمشق" وله فيها إنجازاتٌ كثيرةٌ منها جر مياه عين الفيجة إلى "دمشق" وإدخال الكهرباء الترامواي وإنشاء عددٍ من المباني الهامة "كمبنى السراي الحكومي أو وزارة الداخلية حالياً والمشفى الوطني" وغير ذلك.
وفي نهاية القرن التاسع عشر أُقيم مبنى مقهى ومسرح زهرة "دمشق" عند زاوية الساحة من جهة الشمال، حيث شهد هذا المسرح عام 1912 أول عرض سينمائي صامت، ثم تحوّل المكان إلى صالة "سينما زهرة دمشق"، تعرّضت الصالة إلى حريق في أواخر العشرينيات فهُدمت ويُقام مكانها اليوم "فندق سمير". وبانتهاء عهد الخانات شُيّد أول فندق في المدينة يطل على "ساحة المرجة" قرب ضفة نهر "بردى" في حي "جوزة الحدباء" هو فندق "ديمتري" نسبة إلى صاحبه اليوناني "ديمتري كاراه"، أما الفندق الأشهر في تلك الفترة فكان فندق "دامسكوس بالاس أوتيل"الذي أقام فيه "جمال باشا" قائد الجيش العثماني».
وفي وصفٍ للساحة تحدث السيد "النحلاوي" بقوله: «في نهاية الساحة باتجاه "جسر فكتوريا" ستصادف فندق "عمر الخيّام"، وقد صمّم طراز هذا الفندق المهندس اللبناني "فريد طراد" عام 1927، وكان اسمه آنذاك "فندق أمية"، ولم يبق من "ساحة المرجة" اليوم سوى بضعة أبنية أثرية مثل "بناء السرايا" الذي هو "مبنى النفوس" حالياً، وقد أُزيلت معظم الأسواق القديمة المحيطة بالساحة مثل "سوق التبن، وسوق العتيق، وسوق الخيل"
التي استُبدلت بكتل إسمنتية وأبراج تجارية، وأقول ذلك دامع العين لأننا كنا نحمل فيها جزءاً كبيراً من ذكرياتنا، كما أُغلقت معظم دور السينما التي كانت تغص بها الساحة "كسينما الإصلاح خانة، وسينما الكوزموغراف وسينما غازي"، أما "ساعة المرجة" فقد تعطلت منذ زمن طويل، ولم تعد تشير إلى الوقت الصحيح، كأن الزمن غادر هذه الساحة إلى أمكنة أخرى أكثر جاذبية وحداثة».
ويروي "فخري البارودي" في مذكراته عن تاريخ المنطقة قائلاً: «بعد خلع السلطان "عبد الحميد الثاني" أحال الاتحاديون على التقاعد قسماً كبيراً من الضباط الذين ناصروه، فكانوا يجتمعون في مقهى "البغا"، فلما انضم إليهم الضباط "الحميديون" المتقاعدون تزايد عددهم، حتى صار المقهى خاصاً بهم يجلسون فيه طول النهار، وإذا ما مرّ بهم ضابط حديث كانوا يتبادلون النظرات ويرددون قائلين: «الله كريم»، أملاً منهم بعودة السلطان "عبد الحميد" إلى العرش، ليعودوا معه إلى مناصبهم، فصارت عبارة: «الله كريم» اسماً للمقهى».
فيما تحدث السيد "أحمد العش" واصفاً المكان: «ثمة مفرداتٌ إلى يمين الساحة ويسارها كمئذنة جامع "تنكز" الذي شيده في العهد "المملوكي" نائب الشام الأمير "سيف الدين تنكز الناصري" عام 1318م، إضافةً إلى "زقاق رامي" الذي فتحه "رامي أفندي" رئيس كتاب الوالي "ناظم باشا"، وبناء "العابد" الذي أنشأه "أحمد عزت باشا العابد" ثاني أمناء سر السلطان "عبد الحميد الثاني" وأشرف على تنفيذه وتصميمه المهندس الإسباني "دو أوانده" عام 1908 وأنهي عام 1910.
وإلى جانب كل ذلك انتشرت العديد من المقاهي ولعل من أقدمها "الكمال وعلي باشا" ومقهى "الورد"، كما شهدت الساحة أيضاً ولادة المسارح الدمشقية منها "مسرح زهرة دمشق والنصر والقوتلي"، كما شهدت هذه الساحة تطور النقل في "دمشق" إذ كانت مركز انطلاق "عربات الحنتور السوداء" تلاها دخول "الترامواي" ثم "السيارة" التي دخلت عقب انتهاء "الحرب العالمية الأولى" عام 1918 وكان الدمشقيون يعرفونها باسم "الأتونبيل"، هذا إلى جانب وجود السيارات الكبيرة "البوسطة" وسيارات القاطرة والمقطورة للسفر عبر الصحراء، ثم تلا ذلك حافلات "النقل الداخلي" التي بدأت منذ نهاية "الحرب العالمية الثانية" عام 1945، وفي خمسينيات القرن الماضي تحولت ساحة المرجة إلى مكان رئيسي لانطلاق سيارات السفر الجماعي إلى المدن السورية "التكسي"، وبقيت كذلك حتى سبعينيات القرن العشرين حيث أنشئت مراكز الانطلاق في "ساحة العباسيين والقابون"».
إن ساحة المرجة مكانٌ لا ينام أناسه حيث الفنادق الشعبية والفخمة والمقاهي تؤرخ لسورية في النصف الأول من القرن العشرين سياسياً وعمرانياً واجتماعياً وثقافياً.
وسوق السمك والخضروات وسلال القش وسوق الطيور وباعة العطور المركّبة والأقراص المدمجة والكاسيتات ومحال بيع الحقائب والمحال الشعبية، وتسمع الضوضاء الموسيقيةَ فكلُّ شخصٍ ينادي على بضاعته بأسلوبه، وترى فيها أشخاصاً يرتاحون على الكراسي المجاورة للنصب القائم هناك، وأشخاصاً يجلسون في المقهى المجاور للساحة يحتسون الشاي "الخمير" ويأخذون نرجيلتهم.
ومن بين هؤلاء كان السيد "مروان التكريتي" وهو رجلٌ يقارب الستين من العمر، تحدث إلينا بصوتٍ جهورٍ ظهر عليه بعض الوهن بقوله: «شهدت هذه الساحة أحداثاً مفصلية في تاريخ البلد كإعدام الوطنيين الأحرار في (6 أيار 1916) على يد "جمال باشا السفّاح"، فسُمّيت لذلك "بساحة الشهداء"، كما كان الفرنسيون يعدمون الفلاحين المتمردين، ويلقون جثثهم وسط الساحة لإثارة رعب الأهالي، "ساحة المرجة" التي تأسست في العهد "المملوكي" وتمّ تحديثها في العهد "العثماني" ثم "الفرنسي" انطلقت منها أول رحلة "للترامواي" بين أحياء "دمشق" عام 1904، كأول وسيلة نقل حديثة، قبل أن تُلغى عام 1961م. قبل الترام كانت وساطة النقل لأهالي "دمشق" هي عربات تجرها الخيول أو يقومون باستئجار الحمير قبل أن تنتشر العجلة الهوائية.
ويخترق ساحة المرجة نهر بردى الذي كان يفيض على جانبيه لغزارة مياهه، لكنه جفّ اليوم، ولم يبق من ذكراه سوى قصائد شعرية لشعراء عشقوا "دمشق" وعرفوها وبعض الأغاني الوطنية».
وفي حديثٍ مع السيد "أحمد العش" موظف في شركة كهرباء "الهامة" كان متواجداً في تلك المنطقة لبعض الشؤون الإدارية قال لنا: «جولةٌ بسيطةٌ في محيط هذه الساحة ستقنعك بأن "دمشق" كلها مختزلة في هذا المحيط، ومن مقهى "علي باشا" سيطالعك النصب التذكاري وسط الساحة تماماً والذي أقامه الوالي العثماني "حسين ناظم باشا" عام 1907 تخليداً لذكرى افتتاح الاتصالات البرقية بين "اسطنبول" و"المدينة المنوّرة" عبر "دمشق"، وصمّمه المعماري الإيطالي "ريموندو دارونكو".
يتكوّن النصب من قاعدة بازلتية وعمود من البرونز ينتهي بمجسم مصغّر لجامع "يلدز" في اسطنبول والذي يلقب أيضاً "بالجامع الأزرق" أو "جامع أحمد باشا" نسبةً للوالي الذي أمر ببنائه وهو عمود "تراجاني" منحوت من "البرونز" تلتف حوله "أسلاك البرق" كرمزٍ لمناسبة رفعه، وفي الأعلى ثمة قاعدة مربعة الشكل تحوي أربعة صنابير لمياه الشرب وفي قمة العمود قاعدة مربعة أخرى تحمل نموذجاً مصغراً لمسجد "سراي يلدز" في "اسطنبول" كما ذكرت سابقاً».
ويتابع: «تزامن رفع النصب "عمود المرجة" مع إطلاق الخط الحديدي "الحجاز" من محطة "الحجاز" المجاورة لمنطقة "ساحة المرجة"، وبُنيت أعواد المشانق لشهداء 6 أيار تحت هذا النصب، ثم أصبحت مكاناً دائماً لإعدام المجرمين، فكان أهالي الأحياء المحيطة بالساحة يتجمهرون فجراً لحضور شنق أحد المجرمين، وقد غدا هذا النصب النادر خلال القرن الماضي واحداً من رموز "دمشق" الهامة».
السيد "إبراهيم النحلاوي" ابن المنطقة وصاحب أحد المحال فيها فيقول: «في هذه الساحة التاريخية كان يتم إعدام المحكومين في أزمنةٍ مختلفةٍ، وفيها أيضاً جامعٌ لا يصلى فيه هو جامع "الأمير يلبغا اليحياوي" نائب السلطنة المملوكي فكان ثاني أكبر مسجد في "دمشق"، قديماً كانت هذه الساحة منتزهاً جميلاً تغطيه الأعشاب ويزرع على جوانبها البطيخ، وفي زمن الحصار كانت مخيماً للعسكر ثم أقيم العمود وسطها تذكاراً لمد أول خط تلغراف ربط "اسطنبول بالمدينة المنورة ومكة المكرمة".
ولا ننسى أن "ساحة المرجة" متواجدةٌ في مركز المدينة منذ عام 1911م أي قبل "الحرب العالمية الأولى" وقد انتصب النصب التذكاري في المنتصف، وفي عام 1916 أصبحت المرجة معلماً تاريخياً عندما أعدم الأتراك العثمانيون 21 من المنادين بالاستقلال هناك لعصيانهم "الإمبراطورية العثمانية".
وأضاف: «إنها ساحةٌ مشهورةٌ في وسط "دمشق" التي تختزن في جنباتها الكثير من الصور والذكريات والأحداث التي ارتبطت بتاريخ المدينة، وكان لها عظيم الأثر في التحولات التي شهدتها سورية عموماً خلال العقود الأخيرة، وهي مكان تآلفت فيه الأضداد وتجاورت المتناقضات بدءاً من أنماط عمارة أبنيتها المتناوبة بين القديم والحديث إلى تنوع شرائح الناس الذين تمتلئ بهم ليل نهار، من الفقير إلى الثري ومن المتشرد إلى الموسر، من الباعة البسطاء إلى أصحاب المحلات الفخمة، أضف إلى ذلك بأن "ساحة المرجة" تمتاز بتاريخها الحافل وتناقضاتها العجيبة وموقعها الاستراتيجي المميز وسط "دمشق" مع الأسواق المتفرعة عنها،
وهذا ما جعلها مكاناً يجمع الخيال مع الواقع ويقدم قراءةً مثاليةً لمفردات الحياة الدمشقية، لتأتي الساحة متفردة بكل شيءٍ، وهي متميزةٌ عن كل ساحات وميادين "دمشق" والمدن السورية الأخرى، وقد ذكر ذلك الباحث "قتيبة الشهابي" في كتابه "دمشق: تاريخٌ وصورٌ"».
ويضيف السيد "النحلاوي" عن تاريخ المنطقة قائلاً: «في بدايات القرن التاسع عشر كان "نهر بردى" يتفرع في ساحة المرجة إلى فرعين يحتضنان جزيرة صغيرة غنية بالأشجار كانت تسمى "بالجزيرة" أو "بين النهرين" ثم عرفت باسم "المرجة"، ولطالما شهدت طوفان بردى المتكرر إثر الأمطار الغزيرة الذي كان يعرف "بالفيضان" أو "الزورة" فتغمر الساحة والأسواق المجاورة.
لم يكن هذا فقط ما شهدته هذه المنطقة السحرية، بل كانت شاهداً على أحداث سياسية مهمة فبعد سنوات من تأسيسها قام "جمال باشا السفاح" بإعدام رجالات سورية ولبنان فيها في 6 أيار 1916 فصارت تعرف
"بساحة الشهداء"، كما شهدت إعدام أبطال الثورة السورية الكبرى الذين ألقت فرنسا بجثثهم في تلك الساحة لدب الذعر والخوف في نفوس الناس.
وفي عام 1907 شهدت المنطقة انطلاق "البرق" كما شهدت أيضاً دخول الحافلات الكهربائية (الترامواي) إلى "دمشق" ولأول مرة في عهد الوالي "ناظم باشا" من قبل شركة "التنوير والجر المساهمة المغفلة البلجيكية" والتي كان مقرها في "زقاق الصخر"، وفي نفس العام عرفت "دمشق" الكهرباء وقد استمرت حافلات الترامواي بالعمل حتى عام 1962.
أما عام 1866 تمت تغطية "نهر بردى" في عصر الوالي "محمد راشد باشا" بتلك الساحة فغدت المنطقة ميداناً فسيحاً مما سهل حركة القوافل والنقل وصار اسمها "الميدان الكبير"، وقام "حسين ناظم باشا" ببناء دار البلدية عام 1895 فتشكلت هناك نواة مركز مدينة "دمشق" إذ أقيم بناءان آخران قبل "دار البلدية" أمام جامع "يلبغا المملوكي" هما "دار البرق" والبريد و"دار العدلية" و"بناء السجن" الذي يسمى الآن "بالقصر العدلي"، لذلك يعتبر "ناظم باشا" أشهر الولاة العثمانيين على "دمشق" وله فيها إنجازاتٌ كثيرةٌ منها جر مياه عين الفيجة إلى "دمشق" وإدخال الكهرباء الترامواي وإنشاء عددٍ من المباني الهامة "كمبنى السراي الحكومي أو وزارة الداخلية حالياً والمشفى الوطني" وغير ذلك.
وفي نهاية القرن التاسع عشر أُقيم مبنى مقهى ومسرح زهرة "دمشق" عند زاوية الساحة من جهة الشمال، حيث شهد هذا المسرح عام 1912 أول عرض سينمائي صامت، ثم تحوّل المكان إلى صالة "سينما زهرة دمشق"، تعرّضت الصالة إلى حريق في أواخر العشرينيات فهُدمت ويُقام مكانها اليوم "فندق سمير". وبانتهاء عهد الخانات شُيّد أول فندق في المدينة يطل على "ساحة المرجة" قرب ضفة نهر "بردى" في حي "جوزة الحدباء" هو فندق "ديمتري" نسبة إلى صاحبه اليوناني "ديمتري كاراه"، أما الفندق الأشهر في تلك الفترة فكان فندق "دامسكوس بالاس أوتيل"الذي أقام فيه "جمال باشا" قائد الجيش العثماني».
وفي وصفٍ للساحة تحدث السيد "النحلاوي" بقوله: «في نهاية الساحة باتجاه "جسر فكتوريا" ستصادف فندق "عمر الخيّام"، وقد صمّم طراز هذا الفندق المهندس اللبناني "فريد طراد" عام 1927، وكان اسمه آنذاك "فندق أمية"، ولم يبق من "ساحة المرجة" اليوم سوى بضعة أبنية أثرية مثل "بناء السرايا" الذي هو "مبنى النفوس" حالياً، وقد أُزيلت معظم الأسواق القديمة المحيطة بالساحة مثل "سوق التبن، وسوق العتيق، وسوق الخيل"
التي استُبدلت بكتل إسمنتية وأبراج تجارية، وأقول ذلك دامع العين لأننا كنا نحمل فيها جزءاً كبيراً من ذكرياتنا، كما أُغلقت معظم دور السينما التي كانت تغص بها الساحة "كسينما الإصلاح خانة، وسينما الكوزموغراف وسينما غازي"، أما "ساعة المرجة" فقد تعطلت منذ زمن طويل، ولم تعد تشير إلى الوقت الصحيح، كأن الزمن غادر هذه الساحة إلى أمكنة أخرى أكثر جاذبية وحداثة».
ويروي "فخري البارودي" في مذكراته عن تاريخ المنطقة قائلاً: «بعد خلع السلطان "عبد الحميد الثاني" أحال الاتحاديون على التقاعد قسماً كبيراً من الضباط الذين ناصروه، فكانوا يجتمعون في مقهى "البغا"، فلما انضم إليهم الضباط "الحميديون" المتقاعدون تزايد عددهم، حتى صار المقهى خاصاً بهم يجلسون فيه طول النهار، وإذا ما مرّ بهم ضابط حديث كانوا يتبادلون النظرات ويرددون قائلين: «الله كريم»، أملاً منهم بعودة السلطان "عبد الحميد" إلى العرش، ليعودوا معه إلى مناصبهم، فصارت عبارة: «الله كريم» اسماً للمقهى».
فيما تحدث السيد "أحمد العش" واصفاً المكان: «ثمة مفرداتٌ إلى يمين الساحة ويسارها كمئذنة جامع "تنكز" الذي شيده في العهد "المملوكي" نائب الشام الأمير "سيف الدين تنكز الناصري" عام 1318م، إضافةً إلى "زقاق رامي" الذي فتحه "رامي أفندي" رئيس كتاب الوالي "ناظم باشا"، وبناء "العابد" الذي أنشأه "أحمد عزت باشا العابد" ثاني أمناء سر السلطان "عبد الحميد الثاني" وأشرف على تنفيذه وتصميمه المهندس الإسباني "دو أوانده" عام 1908 وأنهي عام 1910.
وإلى جانب كل ذلك انتشرت العديد من المقاهي ولعل من أقدمها "الكمال وعلي باشا" ومقهى "الورد"، كما شهدت الساحة أيضاً ولادة المسارح الدمشقية منها "مسرح زهرة دمشق والنصر والقوتلي"، كما شهدت هذه الساحة تطور النقل في "دمشق" إذ كانت مركز انطلاق "عربات الحنتور السوداء" تلاها دخول "الترامواي" ثم "السيارة" التي دخلت عقب انتهاء "الحرب العالمية الأولى" عام 1918 وكان الدمشقيون يعرفونها باسم "الأتونبيل"، هذا إلى جانب وجود السيارات الكبيرة "البوسطة" وسيارات القاطرة والمقطورة للسفر عبر الصحراء، ثم تلا ذلك حافلات "النقل الداخلي" التي بدأت منذ نهاية "الحرب العالمية الثانية" عام 1945، وفي خمسينيات القرن الماضي تحولت ساحة المرجة إلى مكان رئيسي لانطلاق سيارات السفر الجماعي إلى المدن السورية "التكسي"، وبقيت كذلك حتى سبعينيات القرن العشرين حيث أنشئت مراكز الانطلاق في "ساحة العباسيين والقابون"».
إن ساحة المرجة مكانٌ لا ينام أناسه حيث الفنادق الشعبية والفخمة والمقاهي تؤرخ لسورية في النصف الأول من القرن العشرين سياسياً وعمرانياً واجتماعياً وثقافياً.